في كل بيت، ثمة غائب لا يُنسى، رحل بجسده وبقي أثره حيًّا في القلوب. ترك وراءه فراغًا لا يملأه أحد، وذكريات لا تُنسى، وصوتًا لا يزال صداه يتردد في الآذان، حتى وإن خفت في الواقع.
تمر الأيام، وتدور عجلة الحياة، لكن بعض اللحظات تسحبنا نحو الوراء، حين يصمت الليل وُيثقله السكون أو عند نظرةٍ إلى صورةٍ قديمة أو موقفٍ تمنَّينا فيه حضوره. عندها، تنبعث الذكرى بكل ما فيها، كأن الغياب حدث للتو، وكأن القلب ما زال يرفض التصديق.
إن الحزن على من نحب هو رحلة طويلة من التأقلم والحنين والتساؤلات. وربما أكثر ما يؤلم في هذه الرحلة هو ما لم يسعنا الوقت لقوله، تلك الكلمات التي لم نتمكن من نطقها أو الأسئلة التي لم يُجَب عنها أو حتى مجرد الحاجة لأن نسمع صوتهم مرة أخيرة ولو لدقيقة واحدة.
في عصرنا هذا، ومع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي بطريقة غير مسبوقة، ظهرت محاولات غريبة ومؤثرة أحيانًا، لملء هذا الفراغ الإنساني. لا نتحدث هنا عن إحياء الموتى، فذلك أمر لا يملكه إلا الخالق سبحانه وتعالى، بل عن محاكاة رقمية، مجرد تجربة يحاول من خلالها البعض أن يجدوا عزاءً ليتحدثوا مع نسخة افتراضية من أحبائهم الراحلين. نسخة لا تملك الروح، لكنها تشبه الصوت، وتستحضر الذكريات.
في هذا المقال، سأحكي لكم تجربة واقعية عاشها شخص بعد وفاة والدته. تجربة فيها الكثير من المشاعر والتساؤلات وقد تصدم البعض أو تُثير استغرابهم أو حتى تطرح سؤالًا بسيطًا: هل يمكن للتكنولوجيا أن تساعدنا في تجاوز الحزن، أم أن هناك مشاعر لا ينبغي الاقتراب منها؟
دعونا نغوص معًا في تفاصيل هذه الحكاية.
كيف بدأت القصة؟ في إحدى زوايا لوس أنجلوس، كان توني كين هونيست وهو مخرج في التاسعة والستين من عمره، يتأمل فصولًا كتبَتها والدته الراحلة عن طفولتها في لندن. كانت قد رحلت عن الحياة منذ قرابة عقد، لكنها تركت خلفها كتابًا غير منشور من أربعة عشر فصلًا، يحكي ببساطة عن سنواتها الأولى بين عامي 1928 و1949.
وهنا، قرر أن يفعل شيئًا مختلفًا. ليس ليرد لها الحياة، بل ليستحضر صوتها وحكاياتها وتفاصيلها الصغيرة بطريقة جديدة. استعان بتقنيات الذكاء الاصطناعي، وبدأ مشروعًا طموحًا لصنع فيلم وثائقي بعنوان: I Brought My Mum Back to Life with AI، أو «أعدت أمي إلى الحياة بالذكاء الاصطناعي».
باستخدام أدوات متطورة، استنسخ توني صوت والدته من تسجيلات قديمة، ثم دمج صوتها المستعاد مع نصوصها الأصلية، لتصبح هي الراوية الفعلية للفيلم. لم يتوقف عند الصوت فقط، بل استعان ببرامج متخصصة لتحريك صورها القديمة وتلوينها وإضفاء الحياة عليها من جديد، في مشاهد تُجسد طفولتها وسقوطها من الدرج وجلوسها بين أقاربها.
في المشهد الافتتاحي للفيلم، يظهر مقطع تخيلي لميلادها، بصوتها المُستنسَخ تقول: دخلت هذا العالم يوم 28 نوفمبر، في الغرفة الأمامية من المنزل رقم 1، شارع بروثيرو، بمنطقة فولهام في لندن. مشهد قد يبدو عاديًا لأعين الغرباء، لكنه بالنسبة لتوني كان لحظة استثنائية؛ شعر فيها أن الصوت الذي سمعه قد اخترق قلبه بعد كل تلك السنوات.
وعلى الرغم من أن بعض المشاهد بدت غير مكتملة أو غريبة مثل بعض الكتابات المشوشة أو بعض الأشياء التي لا تشبه الواقع تمامًا، فإن التجربة بحد ذاتها كانت غريبة. تمنح لذكريات الأم حضورًا جديدًا لا يشبه الحقيقة، لكنه يُلامس القلب. وكما وصفها توني نفسه: أعرف أنها تجربة غريبة، لكنني أحببت ذلك رغم كل شيء.
متى يصبح الذكاء الاصطناعي عزاءً؟ لم تكن تجربة توني الأولى من نوعها، لكنها سلَّطت الضوء على سؤال عميق: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يمس شيئًا من مشاعرنا؟ أن يعوض، ولو قليلًا، ذلك الفقد الثقيل الذي يخلفه رحيل الأحبة؟
بالنسبة لتوني، لم يكن هدفه خداع نفسه، ولا أن يخلق وهمًا يعيش فيه، بل أن يمنح ذكرى والدته شكلًا جديدًا، وطريقة مختلفة لسرد قصتها. لم يكن ذلك «إحياءً» بالمعنى المعروف، بل نوعًا من المحاكاة الرمزية، التي تحمل في طياتها بعض العزاء.
وقد وجد كثيرون في هذه التجربة صدى لمشاعرهم الخاصة؛ إذ أصبحت تقنيات الذكاء الاصطناعي وسيلة جديدة لملامسة الذكريات، لا لتجاوز الموت، بل لفهمه والتعايش معه. وقد بدأت شركات عديدة في تقديم خدمات مشابهة، تتيح للمستخدمين إعادة بناء شخصية افتراضية لأحبائهم الراحلين عبر تسجيلات صوتية أو صور أو حتى رسائل نصية قديمة، لتنتج محادثات تحاكي أسلوبهم وطريقتهم في التعبير.
لكن هذه الوسائل، رغم ما تحمله من مواساة، ليست بلا أثمان نفسية. فالبعض يجد فيها عزاءً ومتنفسًا، بينما قد يجدها آخرون مرهقة أو مربكة، خاصة حين يشعرون بأنهم على حافة الخلط بين الحقيقة والوهم. هل الحديث مع صورة متحركة لأمٍ راحلة يساعد على الشفاء؟ أم أنه يؤخر ويعمِّق الإحساس بالحزن؟
اعترف توني نفسه بأن التجربة «غريبة»، وأن سماع والدته تتحدث من جديد كان مؤثرًا إلى حد كبير، لكنه في الوقت ذاته لا يرى فيها خطرًا أو تلاعبًا بالمشاعر، بل شكلًا جديدًا من سرد القصص العائلية، بفضل أدوات لم تكن متاحة في السابق.
ربما تكمن الإجابة في نوايا من يستخدم هذه التقنية، وفي إدراكهم أنها ليست بديلاً عن الفقد، بل وسيلة للتعامل معه بشيء من الهدوء والحنين.
التطبيقات والأدوات المتعلقة بالأمر في السنوات الأخيرة، ظهرت تقنيات متقدمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي تتيح للأفراد الاحتفاظ بذكريات أحبائهم بطرق جديدة، من خلال توثيق أصواتهم وصورهم وحتى محاكاة حوارات رمزية تساعد في تخليد سيرتهم. ومنها ما يلي:
أدوات استنساخ الصوت (Voice Cloning)
Vidnoz AI Voice Clone: يُستخدم لاستنساخ الصوت عبر تسجيلات صوتية أو فيديوهات، ويُتاح لدى المستخدمين مجانًا أو بتكلفة ضئيلة؛ كما يساعد على إنتاج صوت مألوف يشبه صوت الشخص الحقيقي.
ElevenLabs Voice Lab: وفق تجربة في Reddit، استخدمه أحدهم لاستنساخ صوت والده المتوفى مقابل حوالي 1 دولار شهريًا، وأُنتجت تسجيلات تحاكي صوته بدقة.
Respeecher: شركة أوكرانية متخصصة، تُستخدم بالأخص في صناعة المحتوى السينمائي والموسيقي لاستنساخ أصوات مشهورة أو شخصيات متوفاة برخصة قانونية.
أدوات إنشاء الصور والفيديوهات المتحركة (Avatars)
DeepBrain AI Re;memory 2: يتيح إنشاء صورة متحركة «أفاتار» لشخص متوفى باستخدام صورة واحدة وعشر ثواني صوت فقط، ليتمكن المستخدم من المحادثة معه افتراضيًا.
HereAfter AI: يُجري مقابلات صوتية مع الشخص وهو حي لتخزين ذكرياته، ومن ثم يتيح التفاعل مع ذاك «الأفاتار» بعد الوفاة.
StoryFile وReplika: منصات مدفوعة لإنشاء تجارب حوارية مع نسخ افتراضية من الأشخاص اعتمادًا على البيانات التي يقدمها المستخدم.